كتبت.. نسرين يسري
في حياتنا اليومية، نعيش وسط أحداث ومواقف تمر علينا بسرعة، نحكم عليها من ظاهرها، ونسير في طرقات مليئة بالوجوه والتجارب التي نعتقد أننا نفهمها. ولكن في الواقع، كل ما نراه هو ما يظهر لنا أمام الستار؛ خلف هذا الستار تختبئ حقائق وأسرار لا نعلمها، وتفاصيل لم تُكشف بعد.
يقال إن “ما وراء الستار” هو ذلك العمق الذي لا يصل إليه إلا من يمتلك عينًا ترى ما هو أبعد من السطح، وقلبًا يستشعر ما لا يُقال. فالأشخاص، على سبيل المثال، لا يعرضون كل ما في داخلهم للعالم. ربما نرى الابتسامات، لكن خلفها قد تختبئ قصص من الألم أو الصراعات الداخلية التي لا يعرفها أحد. وما يظهر لنا من تصرفات قد يكون مرآة لانفعالات داخلية أو تجارب مؤلمة.
المواقف أيضًا تحمل وراءها ما لا يُرى. ربما نمر بتجربة تبدو غير عادلة، أو تصادفنا قرارات تبدو بلا مبرر، لكن وراء الستار قد تكون هناك أسباب وحكايات لا نعرفها. ربما كانت هناك عوامل خارج سيطرتنا، أو ربما كانت الدوافع أكثر تعقيدًا مما نتصور. الحقيقة دائمًا أكثر عمقًا مما يظهر على السطح، ولا يمكننا الحكم على شيء من النظرة الأولى.
حتى في الفن والأدب، نجد هذا المفهوم متجسدًا. الكاتب يترك وراء كلماته معانٍ خفية لا يصل إليها القارئ إلا إذا تعمّق في النص، والفنان يعبر عن مشاعر وأفكار لا يراها الناظر إلا إذا أمعن النظر فيما وراء الألوان والخطوط.
إنه الغموض الذي يمنح الحياة طابعًا مختلفًا.
لو كُشفت لنا كل الأسرار منذ اللحظة الأولى، لأصبحت الحياة مملة، وفقدت جاذبيتها. الغموض هو ما يحفز عقولنا للسعي وراء الحقيقة، وهو ما يمنحنا
الرغبة في الاستكشاف والتعلم. إنه ما يجعلنا نطرح الأسئلة ونبحث عن إجابات، وما يجعل العلاقات أكثر عمقًا وتنوعًا. فالتعمق في معرفة الآخرين، واستكشاف ما وراء قصصهم، يجعل العلاقات أكثر إنسانية وصدقًا. نحن لا نكتفي بما نراه أمامنا، بل نتعطش لمعرفة ما هو أبعد، لنفهم دوافعهم وأفكارهم ونقدر معاناتهم وانتصاراتهم.
لكن هذا لا يعني أن كل ما هو وراء الستار يجب أن يُكشف. هناك جوانب من الغموض تستحق أن تبقى كما هي، تُغذي الخيال وتُبقي على مساحة من السحر والتساؤل. بعض الأسرار تمنح الأشياء جاذبيتها، وبعض المساحات الغامضة تُبقي على الجمال في عدم المعرفة الكاملة. في حياتنا، هناك أشياء تُكشف بمرور الوقت، وأشياء أخرى يجب أن نحترم خصوصيتها، سواء كانت تلك الأشياء مرتبطة بالآخرين أو بنا.
في نهاية المطاف، ما وراء الستار ليس مجرد مساحة مظلمة تحتاج للضوء، بل هو جزء من توازن الحياة. إنه المزيج بين المعرفة والجهل، بين المكشوف والمخفي، الذي يُثري تجربتنا الإنسانية. قد لا نتمكن من كشف كل شيء، وقد لا نحتاج لذلك. فبعض الأسرار تظل جميلة كما هي، تذكرنا بأن الحياة أعمق وأعقد مما نظنه، وأن السعي وراء الحقيقة، وإن كان مهمًا، يجب أن يتم بحكمة وصبر.
هكذا، يظل ما وراء الستار رمزًا للعمق، دعوة للتأمل، ورسالة بأن العالم لا يُرى دائمًا بعين واحدة، بل بأعين متعددة، كل منها تبحث عن زاوية مختلفة من الحقيقة.